فصل: مطلب فِي اتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب فِي آدَابِ الدُّعَاءِ

‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ فِي آدَابِ الدُّعَاءِ ‏.‏

ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ لِلدُّعَاءِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَدَبًا‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَتَرَصَّدَ بِهِ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ خَفْضُ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

السَّادِسُ‏:‏ أَنْ يُسَبِّحَ قَبْلَ الدُّعَاءِ عَشْرًا ‏.‏

السَّابِعُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الدُّعَاءِ غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ بَلْ عَنْ حُرْقَةٍ وَاجْتِهَادٍ ‏.‏

فَإِنَّ الْمَشْغُولَ بِتَسْجِيعِ الْأَلْفَاظِ وَتَرْتِيبِهَا غِذَاء مِنْ الْخُشُوعِ ‏.‏

نَعَمْ إنْ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أَعُوذُ بِك مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ‏.‏

وَمِنْ عَيْنٍ لَا تَدْمَعُ ‏"‏ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ‏:‏ إيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ‏.‏

الثَّامِنُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ صَحِيحَ اللَّفْظِ لِتَضَمُّنِهِ مُوَاجَهَةَ الْحَقِّ بِالْخِطَابِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ ‏"‏ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا ‏"‏ ‏.‏

التَّاسِعُ‏:‏ الْعَزْمُ فِي الدُّعَاءِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا‏:‏ ‏"‏ إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلِيَعْزِمْ ‏,‏ وَلَا يَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ إنْ شِئْت فَأَعْطِنِي ‏.‏

فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ ‏"‏ ‏.‏

الْعَاشِرُ‏:‏ حُضُورُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ ‏"‏ ‏.‏

الْحَادِيَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَصْلُحُ سُؤَالُهُ ‏.‏

فَإِنَّهُ لَوْ سَأَلَ مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مُتَعَدِّيًا ‏.‏

الثَّانِيَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ يَدْعُوَ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْإِجَابَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ اُدْعُوَا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ ‏"‏ ‏.‏

الثَّالِثَ عَشَرَ‏:‏ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ‏:‏ يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وَقَالَ‏:‏ وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ‏.‏

الرَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ يُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ ‏"‏ ‏.‏

الْخَامِسَ عَشَرَ‏:‏ أَنْ يَأْكُلَ الْحَلَالَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ‏:‏ يَا رَبُّ يَا رَبُّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ‏,‏ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ‏,‏ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ‏,‏ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ ‏,‏ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ‏"‏ ‏.‏

السَّادِسَ عَشَرَ‏:‏ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَظَالِمِ لِمَا فِي الإسرائيليات وَذَكَرَهُ ابْنُ دِينَارٍ ‏"‏ أَصَابَ بَنْيِ غِذَاء بَلَاءٌ فَخَرَجُوا مَخْرَجًا ‏,‏ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ ‏,‏ وَتَرْفَعُونَ إلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ ‏,‏ وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنْ الْحَرَامِ ‏,‏ الْآنَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ ‏,‏ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إلَّا بُعْدًا ‏"‏ ‏.‏

السَّابِعَ عَشَرَ‏:‏ دَوَامُ الدُّعَاءِ فِي السَّرَّاءِ قَبْلَ نُزُولِ الضَّرَّاءِ ‏.‏

الثَّامِنَ عَشَرَ‏:‏ الدُّعَاءُ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ ‏,‏ فَإِنَّ تَعْلِيمَ الشَّرْعِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ ‏.‏

التَّاسِعَ عَشَرَ‏:‏ عَدَمُ الْعَجَلَةِ كَمَا مَرَّ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

زَادَ ابْنُ غِذَاء‏:‏ وَتَقْدِيمُ عَمَلٍ صَالِحٍ وَالْوُضُوءُ ‏.‏

وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ ‏.‏

وَالْجَثْوُ عَلَى الرُّكَبِ ‏,‏ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ ‏,‏ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا وَآخِرًا وَوَسَطًا ‏,‏ وَبَسْطُ يَدَيْهِ وَرَفْعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَكَشْفُهُمَا مَعَ تَأَدُّبٍ وَاعْتِرَافٍ بِالذَّنْبِ ‏,‏ وَيَبْدَأُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَخُصُّهَا إنْ كَانَ إمَامًا ‏,‏ وَلَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ ‏,‏ وَلَا بِأَمْرٍ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ ‏.‏

وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَأَنْ يَسْأَلَ مَا يَصْلُحُ ‏,‏ وَيَمْسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ ‏.‏

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى حَرَّضَ عَلَى بَذْلِ الْجَهْدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ‏,‏ وَحَثّ عَلَى السَّهَرِ فِي نَيْلِهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ الْمَنْظُومَةِ‏:‏ إلَّا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ إلَخْ ‏.‏

لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَطَرِيقُهُ الْعِلْمُ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ

وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ بِلَا ضَجَرِ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غِذَاء ‏(‏وَلَا تَسْأَمَنَّ‏)‏ لَا نَاهِيَةٌ وتسأمن فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ ‏,‏ أَيْ لَا تملن ‏(‏الْعِلْمَ‏)‏ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا وَحِفْظًا وَمُطَالَعَةً وَكِتَابَةً ‏.‏

يُقَالُ سَئِمَ الشَّيْءَ وَسَئِمَ مِنْهُ غِذَاء سَآمَةً وسآما وَسَآمَةً وَسَأَمًا‏:‏ مَلَّ فَهُوَ سَئُومٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ ‏.‏

وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ‏:‏ سَئِمْت شَيْئًا أَسْأَمُهُ مَهْمُوزٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ سآما وَسَآمَةً بِمَعْنَى ضَجِرَتْهُ وَمَلِلْته ‏.‏

وَفِي التَّنْزِيلِ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ‏.‏

‏(‏وَاسْهَرْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ لَهُ الرَّاغِبُ فِيهِ لَا عَنْهُ ‏,‏ فَإِنَّهُ لَنْ يَنَالَ الْكَرَامَةَ إلَّا مَنْ قَالَ لِلْكَرَى مَهْ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ سَهِرَ غِذَاء لَمْ يَنَمْ لَيْلًا ‏,‏ وَرَجُلٌ سَاهِرٌ وَسَهَّارٌ وَسَهْرَانُ ‏(‏لَنَيْلِهِ‏)‏ أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَنَالَهُ وَتُعْطَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّاحَةِ وَالْأَشَرِ ‏,‏ بَلْ بِالطَّلَبِ وَالسَّهَرِ ‏,‏ فَمَنْ أَلِفَ السُّهَادَ ‏,‏ وَتَرَكَ الْوِسَادَ وَالْمِهَادَ ‏,‏ وَجَابَ الْبِلَادَ ‏,‏ وَحُرِمَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ ‏,‏ نَالَ مِنْهُ الْمُرَادَ ‏.‏

مَنْ طَلَبَ وَجَدَّ وَجَدَ ‏,‏ وَمَنْ قَرَعَ الْبَابَ وَلَجَّ غِذَاء ‏.‏

وَمَنْ أَلِفَ السَّآمَةَ وَالنَّوْمَ ‏,‏ وَلَمْ يَنَلْ مَا نَالَ الْقَوْمُ ‏.‏

فَإِذَا رَأَيْت نَفْسَك لَا تَنْهَضُ لِنَيْلِ الْعُلُوم ‏,‏ وَلَا تَدْأَبُ فِي إدْرَاكِ الْمَنْطُوقِ مِنْهَا وَالْمَفْهُومِ ‏,‏ فَاعْلَمْ أَنَّك مِمَّنْ اسْتَرْذَلَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ ‏,‏ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَأَقْعَدَهُ ‏.‏

فَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا زَهَّدَهُ فِي الْعِلْمِ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه‏:‏ لَا يُثَبِّطُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا جَاهِلٌ ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ لَيْسَ قَوْمٌ خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيث ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ الْعِلْمَ وَتَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ أَفْضَلُ عَنْ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ ‏,‏ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رضي الله عنهما ‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَلِيقُ بِهِ ‏.‏

فَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَعَلَيْك أَنْ تَرْفُضَ الْوَسَنَ ‏,‏ وَتَصْرِمَ الْحَسَنَ ‏,‏ وَتُجْهِدَ الْبَدَنَ ‏,‏ لِتَتَحَلَّى بِحِلْيَتِهِ ‏,‏ وَتُعَدَّ مِنْ حَمَلَتِهِ ‏,‏ فَإِنَّهُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ ‏,‏ وَحَذْفِ الْوِسَادِ وَإِلْفِ السُّهَادِ ‏.‏

وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ بِنَشَاطٍ وَعَزْمٍ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ ‏(‏بِلَا ضَجَرِ‏)‏ مِنْ طَلَبِهِ ‏.‏

وَسَآمَةٍ مِنْ تَعَبِهِ ‏.‏

يُقَالُ ضَجِرَ مِنْهُ وَبِهِ غِذَاء ‏,‏ وَتَضَجَّرَ تَبَرَّمَ فَهُوَ ضَجِرٌ وَفِيهِ ضجرة بِالضَّمِّ ‏.‏

فَإِنْ أَسْهَرْت الْعُيُونَ ‏,‏ فِي حِفْظِ الْمُتُونِ ‏,‏ وَتَرَكْت الْوَسَنَ ‏,‏ وَأَجْهَدْت الْبَدَنَ ‏.‏

مِنْ غَيْرِ سَآمَةٍ وَلَا ضَجَرٍ ‏,‏ وَلَا بَطَالَةٍ وَلَا خَوَرٍ ‏(‏تَحْمَدْ‏)‏ أَنْتَ ‏(‏سُرَى‏)‏ كَهُدَى سَيْرُ عَامَّةِ اللَّيْلِ ‏.‏

وَأَمَّا قوله تعالى ‏.‏

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فَذَكَرَ اللَّيْلَ تَأْكِيدًا ‏,‏ أَوْ مَعْنَاهُ سَيْرُهُ ‏.‏

وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ‏:‏ فَائِدَةُ ذِكْرِ اللَّيْلِ الْإِشَارَةُ بِتَنْكِيرِهِ إلَى تَقْلِيلِ مُدَّتِهِ ‏.‏

وَالسُّرَى فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مُضَافٌ وَ ‏(‏السَّيْرُ‏)‏ وَهُوَ الذَّهَابُ كَالْمَسِيرِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَيْ تَحْمَدُ سُرَى سَيْرِك ‏(‏فِي غَدٍ‏)‏ عِنْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ وَظُهُورِ الصَّوَابِ مِنْ الْخَطَأِ ‏,‏ فَهُنَاكَ تَحْمَدُ جدك وَاجْتِهَادَك ‏,‏ اللَّذَيْنِ بَلَّغَاك مُرَادَك ‏,‏ فِي دَارِ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ ‏,‏ وَقِيَامِ الرُّوحِ وَكَرْعِ الرَّاحَةِ ‏.‏

وَذَلِكَ ‏;‏ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه‏:‏ تَعَلُّمُهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ ‏,‏ وَطَلَبُهُ عِبَادَةٌ ‏,‏ وَمُدَارَسَتُهُ تَسْبِيحٌ ‏,‏ وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ ‏,‏ وَتَعْلِيمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ‏,‏ وَبَذْلُهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ ‏.‏

وَهُوَ الْأُنْسُ فِي الْوَحَدَةِ ‏,‏ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ ‏.‏

وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ‏:‏ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَنْ تَعَلَّمْ يَا مُوسَى الْخَيْرَ وَعَلِّمْهُ لِلنَّاسِ ‏,‏ فَإِنِّي مُنَوِّرٌ لِمُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ فِي قُبُورِهِمْ حَتَّى لَا يَسْتَوْحِشُوا مَكَانَهُمْ ‏.‏

وَقَالَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام‏:‏ مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ‏:‏ لَيْتَ شِعْرِي أَيُّ شَيْءٍ أَدْرَكَ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ ‏,‏ وَأَيُّ شَيْءٍ فَاتَ مَنْ أَدْرَكَ الْعِلْمَ ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ‏:‏ لَا يَخْفَى فَضْلُ الْعِلْمِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ ‏;‏ لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ ‏,‏ وَسَبَبِ الْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ الدَّائِمِ ‏,‏ وَلَا يُعْرَفُ التَّقَرُّبُ إلَى الْمَعْبُودِ إلَّا بِهِ ‏,‏ فَهُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَنْفَعُ حَيْثُ خلصت فِيهِ النِّيَّةُ وَكَانَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ‏,‏ حَذَّرَ النَّاظِمُ مِنْ طَلَبِهِ لِأَجْلِ الْمَالِ ‏,‏ أَوْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَقَالَ‏:‏

 مطلب فِي النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلرِّيَاءِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى

وَلَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ غِذَاء فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصِدِ ‏(‏وَلَا تَطْلُبَنَّ‏)‏ أَنْتَ ‏(‏الْعِلْمَ‏)‏ الَّذِي هُوَ أَرْفَعُ غِذَاء ‏,‏ وَأَسْنَى الْمَنَاقِبِ ‏,‏ وَهُوَ سُلَّمُ الْمَعْرِفَةِ ‏,‏ وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ لِنَيْلِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ ‏(‏لِ‏)‏ نَيْلِ ‏(‏الْمَالِ‏)‏ الَّذِي مَآلُهُ إلَى التُّرَابِ ‏,‏ وَلِطَلَبِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا الَّتِي سَبِيلُهَا إلَى الْخَرَابِ وَقَدْ وَصَفَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه الدُّنْيَا فَقَالَ‏:‏ دَارٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ ‏,‏ وَمَنْ أَمِنَ غُبِنَ ‏,‏ وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ ‏,‏ وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ ‏.‏

فِي حَلَالِهَا الْحِسَابُ ‏,‏ وَفِي حَرَامِهَا النَّارُ ‏.‏

وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ‏:‏ اتَّقُوا السَّحَّارَةَ ‏,‏ فَإِنَّهَا تَسْحَرُ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ لَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ أَيْضًا لِ ‏(‏لريا‏)‏ وَالسُّمْعَةِ ‏,‏ فَتَحْصُلْ عَلَى الْخُسْرَانِ وَتَضْمَنْ التَّبِعَةَ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى أَبُو غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ علي شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عُرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ يَعْنِي رِيحَهَا ‏.‏

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِيهِ ‏"‏ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَمَا عَمِلْت فِيهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْت فِيك الْقُرْآنَ ‏,‏ قَالَ‏:‏ كَذَبْت وَلَكِنَّك تَعَلَّمْت لَيُقَالَ‏:‏ عَالِمٌ ‏,‏ وَقَرَأْت لَيُقَالَ‏:‏ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ‏.‏

ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ‏"‏ الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ‏.‏

فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ‏.‏

فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ يَعْنِي الْإِمَامَ رضي الله عنه‏:‏ طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ‏.‏

قِيلَ فَأَيُّ شَيْءٍ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ‏؟‏ قَالَ يَنْوِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِيهِ وَيَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهْلَ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِأَبِي غِذَاء‏:‏ شَرْطُ النِّيَّةِ شَدِيدٌ حُبِّبَ إلَيَّ فَجَمَعْتُهُ ‏.‏

وَقَالَ لِابْنِ هَانِئٍ‏:‏ الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ ‏.‏

إذَا عَلِمْت هَذَا ‏(‏فَ‏)‏ قَدْ ظَهَرَ لَك ‏(‏أَنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ‏)‏ يَعْنِي كُلَّ الْأَمْرِ وَرُوحَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجْتَمِعٌ ‏(‏فِي حُسْنِ مَقْصِدِ‏)‏ أَيْ فِي حُسْنِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ‏,‏ وَرَفْضِ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ ‏,‏ وَالْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ ‏,‏ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ مَلَاكُ الْأَمْرِ وَيُكْسَرُ‏:‏ قِوَامُهُ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ ‏,‏ وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِير‏:‏ وَفِيهِ يَعْنِي الْحَدِيثَ مِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ ‏,‏ الْمِلَاكُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قِوَامُ الشَّيْءِ وَنِظَامُهُ وَمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ لِتَنَالَ الْخَلَاصَ ‏,‏ وَإِلَّا وَقَعْت فِي قَيْدِ الْأَقْفَاصِ ‏,‏ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ غِذَاء طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ ‏,‏ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَعْنِي طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ لَا لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ مَذْمُومًا بَلْ قَدْ يُثَابُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الثَّوَابِ ‏,‏ إمَّا بِزِيَادَةٍ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا فَيَتَنَعَّمُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ‏,‏ وَلَوْ كَانَ فِعْلُ كُلِّ حَسَنٍ لَمْ يُفْعَلْ لِلَّهِ مَذْمُومًا لَمَا أُطْعِمَ الْكَافِرُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا ‏;‏ لِأَنَّهَا تَكُونُ سَيِّئَاتٍ ‏,‏ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ وَثَوَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهَا إلَيْهِ ‏,‏ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ ‏,‏ وَقَوْلُ الْآخَرِ‏:‏ طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ يَعْنِي نَفْسَ طَلَبِهِ حَسَنٌ يَنْفَعُهُمْ ‏.‏

وَهَذَا قِيلَ فِي الْعِلْمِ ‏;‏ لِأَنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُرْشِدُ ‏,‏ فَإِذَا طَلَبَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَحَصَّلَهُ عَرَّفَهُ الْإِخْلَاصَ ‏,‏ فَالْإِخْلَاصُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْعِلْمِ ‏,‏ فَلَوْ كَانَ طَلَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لَزِمَ الدَّوْرُ ‏,‏ انْتَهَى ‏.‏

وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلَاصَةَ التَّحْقِيقِ ‏,‏ وَدَقِيقَةَ التَّدْقِيقِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ ‏.‏

 مطلب فِي الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلَ ‏,‏ فَمَنْ تَرَكَهُ لَمْ يَنَلْ إلَّا الْخَيْبَةَ وَالْوَجَلَ ‏,‏ وَالنَّدَامَةَ وَالْخَجَلَ ‏.‏

أَمَرَك النَّاظِمَ بِهِ فَقَالَ‏:‏ وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي ‏(‏وَكُنْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏,‏ الَّذِي فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاك رَاغِبًا ‏(‏عَامِلًا بِالْعِلْمِ‏)‏ الَّذِي بَذَلْت وُسْعَك فِي تَحْصِيلِهِ ‏,‏ وَتَبْوِيبِهِ وَتَفْصِيلِهِ ‏,‏ وَتَرَكْت فِيهِ الرُّقَادَ ‏,‏ وَرَفَضْت لِأَجْلِهِ الْمِهَادَ وَالْوِسَادَ ‏,‏ وَصَرَمْت النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ ‏,‏ وَهَجَرْت الْوَطَنَ وَالْمِيلَادَ ‏,‏ وَأَلِفْت السُّهَادَ ‏,‏ وَعَزَفْت الْأَخْدَانَ وَالْأَحْفَادَ ‏,‏ وَالْإِخْوَانَ وَالْأَجْدَادَ ‏(‏فِيمَا‏)‏ أَيْ الْقَدْرِ الَّذِي ‏(‏اسْتَطَعْته‏)‏ مِنْ ذَلِكَ ‏,‏ وَمَعْنَى اسْتَطَاعَ أَطَاقَ ‏,‏ وَيُقَالُ اسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ اسْتِثْقَالًا لَهَا مَعَ الطَّاءِ ‏,‏ وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ الطَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا ‏,‏ وَقَرَأَ حَمْزَةُ فَمَا اسْطَاعُوا بِالْإِدْغَامِ ‏,‏ فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ ‏,‏ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ ‏,‏ وَهَذَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ ‏"‏ رَوَاهُ غِذَاء فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ‏.‏

وَلِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ غِذَاء عَنْ مَنْصُورِ بْنِ غِذَاء قَالَ‏:‏ نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ تَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ وَيْلك مَا كُنْت تَعْمَلُ أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتِنِ رِيحِك ‏,‏ فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي ‏.‏

فَاعْمَلْ أَيُّهَا الْأَخُ بِعِلْمِك لِتَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَ ‏(‏لِيُهْدَى‏)‏ أَيْ يُرْشَدُ وَيُسْعَدُ بِالِاقْتِدَاءِ ‏(‏بِك‏)‏ أَيْ بِعَمَلِك الصَّالِحِ ‏,‏ وَكَدْحِك النَّاجِحِ ‏(‏الْمَرْءُ‏)‏ أَيْ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏(‏الَّذِي بِك‏)‏ أَيْ بِعَمَلِك وَجِدِّك وَاجْتِهَادِك فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏يَقْتَدِي‏)‏ أَيْ يَتَّبِعُ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِك ‏,‏ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُدْوَةِ بِتَثْلِيثِ الْقَافِ وَكَعِدَّةِ مَا سَنَنْت بِهِ وَاقْتَدَيْت بِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَلِيَحْذَرْ الْعَالِمُ وَلِيَجْتَهِدْ فَإِنَّ ذَنْبَهُ أَشَدُّ ‏.‏

نَقَلَ غِذَاء عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ ‏.‏

وَمَعْنَاهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ ‏.‏

وَقَالَ غِذَاء بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ يُغْفَرُ لِسَبْعِينَ جَاهِلًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ ‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ هَذَا الْبَابِ ‏.‏

وَفِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ لِشَرْحِ أَثَرِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عَلِيٍّ مَا يَكْفِي وَيَشْفِي ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ‏(‏العلم‏)‏‏:‏ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏:‏ مَنْ رُزِقَ عِلْمًا وَأُعِينَ بِقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ‏,‏ وَهُمْ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ وَمُرَادُ الْحَقِّ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَنْ حُرِمَهُمَا مَعًا ‏,‏ وَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِّيَّةِ ‏,‏ يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ ‏,‏ وَيُغَلُّونَ الْأَسْعَارَ ‏,‏ وَعِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏,‏ وَلَكِنَّ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏.‏

كَمَا قِيلَ فِيهِمْ وَفِي أَضْرَابِهِمْ وَجُلِّهِمْ إذَا فَكَّرْت فِيهِمْ حَمِيرٌ أَوْ كِلَابٌ أَوْ ذِئَابٌ ‏.‏

وَكَقَوْلِ غِذَاء‏:‏ لَمْ يَبْقَ مِنْ جُلِّ هَذَا النَّاسِ بَاقِيَةٌ يَنَالُهَا الْوَهْمُ إلَّا هَذِهِ الصُّوَرُ الثَّالِثُ‏:‏ مَنْ فُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابُ الْعَمَلِ وَالْعَزْمِ ‏,‏ فَهَذَا فِي رُتْبَةِ الْجَاهِلِ بَلْ شَرٌّ مِنْهُ ‏.‏

وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ‏"‏ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا ‏,‏ فَهَذَا جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ سَوَاءٌ ‏,‏ بَلْ رُبَّمَا كَانَ جَهْلُهُ أَخَفَّ لِعَذَابِهِ مِنْ عِلْمِهِ ‏,‏ فَمَا زَادَهُ الْعِلْمُ إلَّا وَبَالًا ‏,‏ مَعَ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي صَلَاحِهِ ‏,‏ بِخِلَافِ التَّائِهِ عَنْ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ الْعَوْدُ إلَيْهَا إذَا أَبْصَرَهَا ‏,‏ وَأَمَّا مَنْ رَآهَا وَحَادَ عَنْهَا فَمَتَى تُرْجَى هِدَايَتُهُ‏؟‏ ‏!‏ الرَّابِعُ‏:‏ مَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنْ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ‏,‏ فَهَذَا إذَا وَافَقَ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِدَاعٍ مِنْ دُعَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْآيَة ‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ إذَا فَسَدَ الْعَالِمُ فَسَدَ لِفَسَادِهِ الْعَالَمُ ‏.‏

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلَاثٍ‏:‏ ‏"‏ مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ ‏,‏ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ ‏,‏ وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ ‏"‏ رَوَاهُ الْبَزَّارُ غِذَاء وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ ‏(‏وَكُنْ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى‏)‏ كَفَتَى الْخَلْقِ ‏,‏ أَيْ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَك أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِالْعِلْمِ أَمَرَك أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَرِيصًا مُجْتَهِدًا عَلَى نَفْعِ الْخَلْقِ ‏;‏ لِأَنَّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ ‏,‏ فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ ‏(‏وَ‏)‏ كُنْ حَرِيصًا أَيْضًا عَلَى ‏(‏هُدَاهُمْ‏)‏ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ‏,‏ وَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ ‏,‏ وَنَجَاتِهِمْ مِنْ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ ‏,‏ وَالْمَهْلَكَةِ وَالْجَهَالَةِ ‏(‏تَنَلْ‏)‏ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِ ‏(‏كُلَّ خَيْرٍ‏)‏ مِنْ خَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ تَخْلِيدِ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ ‏,‏ وَإِدَامَةِ الْعِلْمِ وَالسَّنَاءِ ‏,‏ وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ‏,‏ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الحيرة مع نُورِ الْيَقِينِ ‏,‏ وَكَشْفِ الْعَارِفِينَ ‏,‏ وَالتَّلَذُّذِ بِمُنَاجَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏,‏ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي دَارِ الْخُلْدِ السَّرْمَدِيِّ ‏(‏فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ‏)‏ لَا يَزُولُ أَبَدًا فِي دَارٍ لَا تَبْلَيْ ثِيَابُهَا ‏,‏ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهَا ‏.‏

وَقَدَّمْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ بَعْضَ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى ‏,‏ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب فِي الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ

وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلَ ‏,‏ فَمَنْ تَرَكَهُ لَمْ يَنَلْ إلَّا الْخَيْبَةَ وَالْوَجَلَ ‏,‏ وَالنَّدَامَةَ وَالْخَجَلَ ‏.‏

أَمَرَك النَّاظِمَ بِهِ فَقَالَ‏:‏ وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي ‏(‏وَكُنْ‏)‏ أَيُّهَا الطَّالِبُ ‏,‏ الَّذِي فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاك رَاغِبًا ‏(‏عَامِلًا بِالْعِلْمِ‏)‏ الَّذِي بَذَلْت وُسْعَك فِي تَحْصِيلِهِ ‏,‏ وَتَبْوِيبِهِ وَتَفْصِيلِهِ ‏,‏ وَتَرَكْت فِيهِ الرُّقَادَ ‏,‏ وَرَفَضْت لِأَجْلِهِ الْمِهَادَ وَالْوِسَادَ ‏,‏ وَصَرَمْت النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ ‏,‏ وَهَجَرْت الْوَطَنَ وَالْمِيلَادَ ‏,‏ وَأَلِفْت السُّهَادَ ‏,‏ وَعَزَفْت الْأَخْدَانَ وَالْأَحْفَادَ ‏,‏ وَالْإِخْوَانَ وَالْأَجْدَادَ ‏(‏فِيمَا‏)‏ أَيْ الْقَدْرِ الَّذِي ‏(‏اسْتَطَعْته‏)‏ مِنْ ذَلِكَ ‏,‏ وَمَعْنَى اسْتَطَاعَ أَطَاقَ ‏,‏ وَيُقَالُ اسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ اسْتِثْقَالًا لَهَا مَعَ الطَّاءِ ‏,‏ وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ الطَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا ‏,‏ وَقَرَأَ حَمْزَةُ فَمَا اسْطَاعُوا بِالْإِدْغَامِ ‏,‏ فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ ‏,‏ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ ‏,‏ وَهَذَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ ‏"‏ رَوَاهُ غِذَاء فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ‏.‏

وَلِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ غِذَاء عَنْ مَنْصُورِ بْنِ غِذَاء قَالَ‏:‏ نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ تَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ ‏,‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ وَيْلك مَا كُنْت تَعْمَلُ أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتِنِ رِيحِك ‏,‏ فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي ‏.‏

فَاعْمَلْ أَيُّهَا الْأَخُ بِعِلْمِك لِتَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَ ‏(‏لِيُهْدَى‏)‏ أَيْ يُرْشَدُ وَيُسْعَدُ بِالِاقْتِدَاءِ ‏(‏بِك‏)‏ أَيْ بِعَمَلِك الصَّالِحِ ‏,‏ وَكَدْحِك النَّاجِحِ ‏(‏الْمَرْءُ‏)‏ أَيْ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏(‏الَّذِي بِك‏)‏ أَيْ بِعَمَلِك وَجِدِّك وَاجْتِهَادِك فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ‏(‏يَقْتَدِي‏)‏ أَيْ يَتَّبِعُ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِك ‏,‏ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُدْوَةِ بِتَثْلِيثِ الْقَافِ وَكَعِدَّةِ مَا سَنَنْت بِهِ وَاقْتَدَيْت بِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَلِيَحْذَرْ الْعَالِمُ وَلِيَجْتَهِدْ فَإِنَّ ذَنْبَهُ أَشَدُّ ‏.‏

نَقَلَ غِذَاء عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ ‏.‏

وَمَعْنَاهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ ‏.‏

وَقَالَ غِذَاء بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ يُغْفَرُ لِسَبْعِينَ جَاهِلًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَقَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ ‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ هَذَا الْبَابِ ‏.‏

وَفِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ لِشَرْحِ أَثَرِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عَلِيٍّ مَا يَكْفِي وَيَشْفِي ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ ‏(‏العلم‏)‏‏:‏ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ‏:‏ مَنْ رُزِقَ عِلْمًا وَأُعِينَ بِقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ‏,‏ وَهُمْ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ وَمُرَادُ الْحَقِّ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَنْ حُرِمَهُمَا مَعًا ‏,‏ وَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِّيَّةِ ‏,‏ يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ ‏,‏ وَيُغَلُّونَ الْأَسْعَارَ ‏,‏ وَعِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏,‏ وَلَكِنَّ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏.‏

كَمَا قِيلَ فِيهِمْ وَفِي أَضْرَابِهِمْ وَجُلِّهِمْ إذَا فَكَّرْت فِيهِمْ حَمِيرٌ أَوْ كِلَابٌ أَوْ ذِئَابٌ ‏.‏

وَكَقَوْلِ غِذَاء‏:‏ لَمْ يَبْقَ مِنْ جُلِّ هَذَا النَّاسِ بَاقِيَةٌ يَنَالُهَا الْوَهْمُ إلَّا هَذِهِ الصُّوَرُ الثَّالِثُ‏:‏ مَنْ فُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابُ الْعَمَلِ وَالْعَزْمِ ‏,‏ فَهَذَا فِي رُتْبَةِ الْجَاهِلِ بَلْ شَرٌّ مِنْهُ ‏.‏

وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ‏"‏ وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا ‏,‏ فَهَذَا جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ سَوَاءٌ ‏,‏ بَلْ رُبَّمَا كَانَ جَهْلُهُ أَخَفَّ لِعَذَابِهِ مِنْ عِلْمِهِ ‏,‏ فَمَا زَادَهُ الْعِلْمُ إلَّا وَبَالًا ‏,‏ مَعَ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي صَلَاحِهِ ‏,‏ بِخِلَافِ التَّائِهِ عَنْ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ الْعَوْدُ إلَيْهَا إذَا أَبْصَرَهَا ‏,‏ وَأَمَّا مَنْ رَآهَا وَحَادَ عَنْهَا فَمَتَى تُرْجَى هِدَايَتُهُ‏؟‏ ‏!‏ الرَّابِعُ‏:‏ مَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنْ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ‏,‏ فَهَذَا إذَا وَافَقَ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِدَاعٍ مِنْ دُعَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْآيَة ‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ إذَا فَسَدَ الْعَالِمُ فَسَدَ لِفَسَادِهِ الْعَالَمُ ‏.‏

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلَاثٍ‏:‏ ‏"‏ مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ ‏,‏ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ ‏,‏ وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ ‏"‏ رَوَاهُ الْبَزَّارُ غِذَاء وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ ‏(‏وَكُنْ‏)‏ أَيْضًا ‏(‏حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى‏)‏ كَفَتَى الْخَلْقِ ‏,‏ أَيْ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَك أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِالْعِلْمِ أَمَرَك أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَرِيصًا مُجْتَهِدًا عَلَى نَفْعِ الْخَلْقِ ‏;‏ لِأَنَّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ ‏,‏ فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ ‏(‏وَ‏)‏ كُنْ حَرِيصًا أَيْضًا عَلَى ‏(‏هُدَاهُمْ‏)‏ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ‏,‏ وَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ ‏,‏ وَنَجَاتِهِمْ مِنْ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ ‏,‏ وَالْمَهْلَكَةِ وَالْجَهَالَةِ ‏(‏تَنَلْ‏)‏ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِ ‏(‏كُلَّ خَيْرٍ‏)‏ مِنْ خَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ تَخْلِيدِ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ ‏,‏ وَإِدَامَةِ الْعِلْمِ وَالسَّنَاءِ ‏,‏ وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ‏,‏ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الحيرة مع نُورِ الْيَقِينِ ‏,‏ وَكَشْفِ الْعَارِفِينَ ‏,‏ وَالتَّلَذُّذِ بِمُنَاجَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏,‏ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي دَارِ الْخُلْدِ السَّرْمَدِيِّ ‏(‏فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ‏)‏ لَا يَزُولُ أَبَدًا فِي دَارٍ لَا تَبْلَيْ ثِيَابُهَا ‏,‏ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهَا ‏.‏

وَقَدَّمْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ بَعْضَ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى ‏,‏ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

 مطلب فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمِسْكَيْنِ وَالْفَقِيرِ

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْفَقِيرُ مَنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ كِفَايَتِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَصْلًا ‏.‏

غِذَاء مَنْ وَجَدَ نِصْفَ كِفَايَتِهِ فَأَكْثَرَ ‏.‏

فَالْفَقِيرُ أَشَدُّ احْتِيَاجًا مِنْ الْمِسْكَيْنِ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ ‏.‏

وَقِيلَ عَكْسُهُ ‏,‏ اخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وَثَعْلَبٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ‏.‏

وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ‏,‏ وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ الَّذِي لَا يُفْتَى إلَّا بِهِ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ ‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقِيرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِسْكَيْنِ ‏,‏ وَالْمِسْكِينُ يُطْلَقُ عَلَى الْفَقِيرِ ‏,‏ فَهُمَا كَالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا ‏,‏ وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا ‏,‏ وَلَيْسَا سَوَاءً بِاتِّفَاقٍ ‏.‏

وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلَ ‏,‏ مِنْهَا إذَا أُوصِيَ لِلْفُقَرَاءِ بِكَذَا وَلِلْمَسَاكِينِ بِكَذَا ‏,‏ وَلَسْنَا بِصَدَدِ مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ - أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُمْ - وَإِنَّمَا قَصَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى بَعْضِ مَنَاقِبِ الْفَقْرِ ‏,‏ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ ‏,‏ وَآثَارٌ غَزِيرَةٌ ‏.‏

 مطلب فِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَنَاقِبِ الْفَقْرِ

وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ فَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا كُلُّ مُخِفٍّ ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ غِذَاء بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ قُلْت لِأَبِي الدَّرْدَاءِ‏:‏ مَالَك لَا تَطْلُبُ كَمَا يَطْلُبُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ إنَّ وَرَاءَكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا الْمُثْقَلُونَ ‏,‏ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ ‏"‏ ‏.‏

الْكَئُودُ بِفَتْحِ الْكَافِّ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ هِيَ الْعَقَبَةُ الصَّعْبَةُ الشَّاقَّةُ ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ ‏"‏ وَلَا غِذَاء عَفْوٌ عَنْ مُذْنِبٍ ‏"‏ أَيْ لَا يَصْعُبُ عَلَيْك وَيَشُقُّ كَمَا فِي النِّهَايَةِ ‏.‏

وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَيَحْمِيَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ‏"‏ غِذَاء بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ ‏"‏ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ مِنْ حَدِيثِ غِذَاء ‏.‏

وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ اطَّلَعْت فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ ‏,‏ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ ‏"‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ ‏"‏ وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْأَغْنِيَاءَ وَالنِّسَاءَ ‏"‏ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيق ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ إنَّ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَيْ رَبُّ عَبْدُك الْمُؤْمِنُ يُقَتَّرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ‏,‏ قَالَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إلَيْهَا ‏,‏ قَالَ لَهُ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْت لَهُ ‏,‏ قَالَ مُوسَى‏:‏ أَيْ رَبُّ وَعِزَّتِك وَجَلَالِك لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ ‏.‏

ثُمَّ قَالَ مُوسَى‏:‏ أَيْ رَبُّ عَبْدُك الْكَافِرُ تُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ‏,‏ قَالَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ النَّارِ ‏,‏ فَيُقَالُ لَهُ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْت لَهُ ‏,‏ فَقَالَ مُوسَى أَيْ رَبُّ وَعِزَّتِك وَجَلَالِك لَوْ كَانَ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ كَأَنْ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ ‏"‏ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غِذَاء رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏؟‏ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ‏,‏ قَالَ‏:‏ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمْ الثُّغُورُ ‏,‏ وَتُتَّقَى بِهِمْ الْمَكَارِهُ ‏;‏ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً ‏,‏ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ غِذَاء فَحَيُّوهُمْ ‏,‏ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِك وَخِيرَتُك مِنْ خَلْقِك أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ‏؟‏ قَالَ إنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَتُسَدُّ بِهِمْ الثُّغُورُ ‏,‏ وَتُتَّقَى بِهِمْ الْمَكَارِهُ ‏,‏ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً ‏.‏

قَالَ فَتَأْتِيهِمْ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ تَجْتَمِعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ أَيْنَ فُقَرَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏؟‏ قَالَ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا عَمِلْتُمْ‏؟‏ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا ابْتَلَيْتَنَا فَصَبَرْنَا ‏.‏

وَوَلَّيْت الْأَمْوَالَ وَالسُّلْطَانَ غَيْرَنَا ‏,‏ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقْتُمْ ‏,‏ قَالَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّاسِ وَتَبْقَى شِدَّةُ الْحِسَابِ عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ وَالسُّلْطَانِ ‏"‏ الْحَدِيثَ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ غِذَاء عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ حِينَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ الْغَنِيُّ يَا لَيْتَنِي كُنْت عَيِّلًا ‏,‏ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِّهِمْ لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ ‏,‏ قَالَ هُمْ الَّذِينَ إذَا كَانَ مَكْرُوهٌ بُعِثُوا إلَيْهِ ‏,‏ وَإِذَا كَانَ نَعِيمٌ - وَفِي نُسْخَةٍ مَغْنَمٌ - بُعِثَ إلَيْهِ سِوَاهُمْ ‏,‏ وَهُمْ الَّذِينَ يُحْجَبُونَ عَنْ الْأَبْوَابِ ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ‏.‏

وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء‏:‏ رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ ‏.‏

وَرَوَاهُ ابْنُ غِذَاء بِزِيَادَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْتَقَى مُؤْمِنَانِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مُؤْمِنٌ غَنِيٌّ وَمُؤْمِنٌ فَقِيرٌ كَانَا فِي الدُّنْيَا ‏,‏ فَأُدْخِلَ الْفَقِيرُ الْجَنَّةَ وَحُبِسَ الْغَنِيُّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُحْبَسَ ثُمَّ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ‏,‏ فَلَقِيَهُ الْفَقِيرُ فَقَالَ يَا أَخِي مَا حَبَسَك ‏,‏ وَاَللَّهِ لَقَدْ حُبِسْت حَتَّى خِفْت عَلَيْك ‏,‏ فَيَقُولُ يَا أَخِي إنِّي حُبِسْت بَعْدَك مَحْبِسًا فَظِيعًا كَرِيهًا مَا وَصَلْت إلَيْك حَتَّى سَالَ مِنِّي مِنْ الْعِرْقِ مَاءٌ لَوْ وَرَدَهُ أَلْفُ بَعِيرٍ كُلُّهَا آكِلَةُ غِذَاء لَصَدَرَتْ عَنْهُ رِوَاءً ‏"‏ الحمض بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَا مَلُحَ وَأُمِّرَ مِنْ النَّبَاتِ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أُسَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ قُمْت عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ ‏,‏ وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إلَى النَّارِ ‏.‏

وَقُمْت عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ ‏"‏ الْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ هُوَ الْحَظُّ وَالْغِنَى ‏.‏

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكَيْنَا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ ‏.‏

وَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ ‏"‏ رَوَاهُ ابْنُ غِذَاء إلَى قَوْلِهِ ‏"‏ الْمَسَاكِينُ ‏"‏ وَالْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ غِذَاء عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ الْعُسْرَةُ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي فَقِيرًا وَلَا تَوَفَّنِي غَنِيًّا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا ‏"‏ أَحِبُّوا الْفُقَرَاءَ وَجَالِسُوهُمْ ‏,‏ وَأَحِبَّ الْعَرَبَ مِنْ قَلْبِك ‏,‏ وَلْيَرُدَّك عَنْ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِك ‏"‏ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا مُحْتَجٌّ بِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ‏:‏ الْمَوْتُ ‏,‏ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ ‏,‏ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ ‏,‏ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ أَبُو الْأَشْهَبِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَيْمَنَ مَوْلَى كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ ثِيَابِهِ عَنْهُ ‏,‏ فَتَغَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَخَشِيت يَا فُلَانُ أَنْ يَعْدُوَ غِنَاك عَلَيْهِ وَأَنْ يَعْدُوَ فَقْرُهُ عَلَيْك‏؟‏ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَشَرٌّ الْغِنَى‏؟‏ قَالَ نَعَمْ إنَّ غِنَاك يَدْعُوك إلَى النَّارِ وَإِنَّ فَقْرَهُ يَدْعُوهُ إلَى الْجَنَّةِ ‏.‏

قَالَ فَمَا يُنْجِينِي مِنْهُ‏؟‏ قَالَ تُوَاسِيهِ ‏,‏ قَالَ إذَنْ أَفْعَلُ ‏,‏ فَقَالَ الْآخَرُ لَا أَرَبَ لِي فِيهِ ‏.‏

قَالَ فَاسْتَغْفِرْ وَادْعُ لِأَخِيك ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ أُعْطِينَا مَا أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا ‏,‏ وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَك الطَّعَامَ ‏.‏

وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ غِذَاء وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَمَّارَ بْنَ سَيْفٍ ‏,‏ وَقَدْ وُثِّقَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ‏,‏ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ أَقْبَلَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ لَقَدْ بَطَّأَ بِك غِنَاك مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي حَتَّى خَشِيت أَنْ تَكُونَ هَلَكْت وَعَرِقْت عَرَقًا شَدِيدًا فَقَالَ‏:‏ مَا بَطَّأَ بِك‏؟‏ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ مَالِي مَا زِلْت مَوْقُوفًا مُحَاسَبًا أُسْأَلُ عَنْ مَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْته وَفِيمَا أَنْفَقْته ‏,‏ فَبَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مِائَةُ رَاحِلَةٍ جَاءَتْنِي اللَّيْلَةَ مِنْ تِجَارَةِ مِصْرَ فَإِنِّي أُشْهِدُك أَنَّهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَة وَأَيْتَامِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُخَفِّفُ عَنِّي ذَلِكَ الْيَوْمَ ‏"‏ قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء‏:‏ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ وَمِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا لِكَثْرَةِ مَالِهِ ‏"‏ وَلَا يَسْلَمُ أَجْوَدُهَا مِنْ مَقَالٍ ‏.‏

وَلَا يَبْلُغُ شَيْءٌ مِنْهَا بِانْفِرَادِ دَرَجَةِ الْحُسْنِ ‏.‏

وَلَقَدْ كَانَ مَالُهُ رضي الله عنه بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ‏"‏ فَأَنَّى يُنْقِصُ دَرَجَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُقَصِّرُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَغْنِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ‏.‏

فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ‏,‏ إنَّمَا صَحَّ سَبْقُ فُقَرَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَغْنِيَاءَهُمْ عَلَى الِاطِّلَاقِ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

‏.‏

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْفَقِيرِ الصَّابِرِ آدَابًا ‏.‏

فَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يَكْرَهَ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَقْرِ ‏,‏ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ ‏.‏

وَأَرْفَعُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْفَقْرِ ‏.‏

وَأَرْفَعُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لَهُ وَفَرِحًا بِهِ ‏,‏ وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى‏:‏

 مطلب فِي اتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا

‏,‏ وَهَلْ هُوَ كَسْبِي أَوْ وَهْبِي‏؟‏ ‏(‏وَادَّرِعْ‏)‏ أَصْلُهُ ادترع بَعْدَ نَقْلِ دَرِعَ إلَى الِافْتِعَالِ قُلِبَتْ التَّاءُ دَالًا فَصَارَ اددرع بِدَالَيْنِ فَأُدْغِمَتْ الدَّالُ فِي الدَّالِ الْأُخْرَى لِوُجُوبِ الِادِّغَامِ فَصَارَ ادَّرِعْ أَنْتَ ‏(‏الرِّضَا‏)‏ أَيْ اتَّخِذْ الرِّضَا دِرْعًا ‏,‏ يُقَالُ ادَّرَعَ الرَّجُلُ إذَا لَبِسَ الْحَدِيدَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفُلَانٌ ادَّرَعَ اللَّيْلَ إذَا دَخَلَ فِي ظُلْمَتِهِ يَسْرِي كَأَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ دِرْعًا ‏;‏ لِأَنَّ الدِّرْعَ يَسْتُرُ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّةِ وَاللَّيْلُ يَسْتُرُ بِظُلْمَتِهِ عَنْ أَعْيُنِ الرُّقَبَاءِ ‏.‏

فَإِذَا لَبِسَ الْفَقِيرُ دِرْعَ الرِّضَا فَقَدْ سَلِمَ مِنْ حِرَابِ الْجَزَعِ وَأَسِنَّةِ التَّسَخُّطِ وَنِبَالِ التَّبَرُّمِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الرِّضَا ضِدُّ السُّخْطِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ‏:‏ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ ‏,‏ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ‏.‏

قَالَ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَحْكِيهِمَا قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه ‏,‏ وَكَانَ يَذْهَبُ إلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَمْ يَجِئْ الْأَمْرُ بِهِ كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ ‏,‏ وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحِهِمْ ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنْ الْأَثَرِ‏:‏ مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي ‏,‏ فَهَذَا أَثَرٌ إسْرَائِيلِيٌّ لَيْسَ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ قُلْت وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً وَأَنَّهُ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ ‏,‏ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَيْسَ مَقْدُورًا ‏.‏

وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ ‏(‏الرضا والسخط‏)‏ ‏,‏ غِذَاء نَ قَالُوا إنَّ الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ ‏.‏

فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِاكْتِسَابِهِ ‏.‏

وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ ‏,‏ وَلَيْسَ كسبيا لِلْعَبْدِ ‏,‏ بَلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَكَاسِبِ ‏,‏ وَالْأَحْوَالَ مُجَرَّدُ الْمَوَاهِبِ ‏.‏

وَحَكَمَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ يَعْنِي غِذَاء وَغَيْرُهُ فَقَالُوا‏:‏ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ‏:‏ بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ ‏,‏ وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ ‏,‏ فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ وَنِهَايَتُهُ حَالٌ ‏.‏

وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ أَهْلَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَنَدَبَهُمْ إلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ ‏.‏

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا ‏,‏ وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ‏,‏ وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا ‏"‏ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا ‏,‏ وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ‏,‏ وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا ‏,‏ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ ‏"‏ ‏.‏

وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ ‏,‏ وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي ‏,‏ وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ ‏,‏ وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ وَالِانْقِيَادَ لَهُ ‏,‏ وَالرِّضَا بِدِينِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ وَمَنْ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا ‏,‏ وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ ‏,‏ وَمِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ ‏,‏ وَلَا سِيَّمَا إذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا ‏.‏

وَلَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِ ذَلِكَ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا كسبي بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ ‏,‏ وهبي بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ ‏,‏ فَمَنْ تَمَكَّنَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا ‏,‏ فَإِنَّهُ آخِرُ التَّوَكُّلِ ‏,‏ فَمَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ ‏.‏

وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ ‏.‏

نَعَمْ نَدَبَهُمْ إلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ ‏,‏ وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا ‏,‏ فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ رضي الله عنه ‏,‏ بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنْ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ ‏,‏ فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ ‏,‏ رِضًا قَبْلَهُ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ ‏,‏ وَرِضًا بَعْدَهُ هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ ‏.‏

وَلِذَا كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ ‏,‏ وَجَنَّةَ الدُّنْيَا ‏,‏ وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ ‏,‏ وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ ‏,‏ وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ ‏,‏ وَقُرَّةَ أَعْيُنِ الْمُشْتَاقِينَ ‏.‏

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِضَاهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُوَصِّلُهُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ ‏.‏

قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ رحمه الله‏:‏ مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا‏؟‏ فَقَالَ إذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ ‏,‏ فَيَقُولُ إنْ أَعْطَيْتنِي قَبِلْت ‏,‏ وَإِنْ مَنَعْتنِي رَضِيت ‏,‏ وَإِنْ تَرَكَتْنِي عَبَدْت ‏,‏ وَإِنْ دَعَوْتنِي أَجَبْت ‏.‏

وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ‏:‏ رحمه الله تعالى بَعْدَ أَمْرِهِ بِاِتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا وَجُنَّةً وَوِقَايَةً يَتَحَصَّنُ بِهِ عَنْ اخْتِلَاجِ الْقَلْبِ وَاضْطِرَابِهِ مِنْ النَّوَائِبِ وَالْخَطَرَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالشُّبُهَاتِ ‏,‏ بَلْ يَكُونُ مُطَمْئِنَ الْقَلْبِ سَاكِنَ اللُّبِّ ‏(‏لَ‏)‏ جَمِيعِ ‏(‏مَا‏)‏ أَيْ الَّذِي ‏(‏قَلَّبَ‏)‏ هُ ‏(‏الرَّحْمَنُ‏)‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَرَّفَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ ‏.‏

‏.‏